يحدث هذا في كل زمان ومكان، أن يوجد شخص يكسر كل القواعد، يتمرد على كل المفروض، ويُثبت دومًا أن قانون الموهبة حتى بعشوائيته، أهم من المعادلات والحسابات التي تُجريها أكثر أجهزة الكمبيوتر دقة في هذا العالم، رأينا ذلك مع بيليه حين تجاهل تعليمات مدربه أمام مباراة بلاده أمام الاتحاد السوفيتي 1958، ليُطلق لنفسه العنان واللعب كما تعلّم في شوارع البرازيل وعلى طريقة رقص السامبا، ومع زميله غارينشا تمكّن من حصد ثلاث كؤوس من العالم.
ورأينا ذلك أيضًا مع مارادونا وقت أن كان اللاعب لا يحتاج إلى مدرب كي يجيد اللعب بالقدمين، فـ"دييجو" الذي وضع قانونه الخاص تمكّن من تجاهل التعليمات ليلعب الكرة الاستعراضية التي يحبها، وكانت النتيجة مونديال 1986، وعلى دربهم سار رونالدينهو، وكنت أود القول أن القائمة طويلة، لكن الحقيقة أنها قصيرة جدًا، لكنها متواجدة، تظهر بين الحين والآخر لتعيد إلى اللعبة متعتها الأصلية.
لكن على حد متابعتي الكروية، وأزعم أنني متابعة جيدة، لم أرى من يكسر هذا القانون خارج الملعب، وأقصد المديرين الفنيين وهم عادة من تُكسر قواعدهم من قِبل اللاعبين، لكن مع كارلو أنشيلوتي ابن ريدجيو الإيطالية، انقلبت الآية، لأنه نفسه أول من كسر القواعد، ولم يمنح اللاعبين أصلًا قواعد ليكسروها، وبتلك الثنائية أحرز الرجل 5 بطولات دوري أبطال أوروبا، مع أندية مختلفة بداية من إي سي ميلان، ووصولًا إلى ريال مدريد، ولاعبين مختلفين بداية من مالديني وحتى ڤينسيوس ومبابي، وفي ظروف وأجواء متباينة، ليتأكد الجميع أن ما يحدث سببه "كارلو" لا أكثر.
وإذا كان اللاعبين يتمردون بعدم اتباع الخطط الفنية، فإن تمرد أنشيلوتي نبع من رفضه الانسياق في طابور المدربين الذين بات لا هم لهم سوى التكتيكات وتقسيم المباريات لعدة سيناريوهات ودراسة المنافس والبحث عن وجه جديد يكتسح الملاعب، ورغم أن هذه المصطلحات مهمة، ورغم أن كارلو لم يتجاهلها تمامًا، لكنه أدرك قبل كل هذا، أن إقامة علاقة جيدة مع اللاعبين هي الأهم، وأن منحهم حرية اللعب كما يريدون هو فك اللغز لهذا النجاح الأسطوري.
قواعد كارلو
تلك القواعد طبقها كارلو أنشيلوتي مع إي سي ميلان حين استلمه وهو نادِ مليء بكوكبة من النجوم على شاكلة مالديني وبيرلو وكاكا وسيدروف، وحينها أدرك المدرب الإيطالي أن هؤلاء لا يحتاجون إلى توصية داخل الملعب، لكن السيطرة عليهم في حجرة الملابس هي الأهم، وبالتالي عمل على تقوية علاقته بهم للدرجة التي دفعت مالديني إلى التصريح أن "كارلو استدعاه ذات يوم في مطعم ليجربا الطعام لأنه يحب الطعام كثيرًا، وهكذا كانت علاقته مع الجميع للدرجة التي تدفعه إلى إجلاس أي لاعب منهم على دكة الاحتياط دون أي تذمر.
إضافة إلى العلاقة الشخصية مع اللاعبين، لم يؤمن كارلو بنظرية توظيف اللاعبين في المراكز التي يريدها المدير الفني، بل المكان الذي يريده اللاعب نفسه، ولذلك لم يكن غريبًا أن يسأل كارفاخال بكل بساطة عن المركز الذي يريد اللعب فيه، وحين أجابه الأول مركز الظهير الأيمن، وافق كارلو على ذلك ولم يكن من اللاعب سوى التألق كما لم يتألق من قبل، هكذا هي المعادلة التي من فرط بساطتها تبدو عند الكثيرون مستحيلة.
الاتزان الداخلي، ركن ثالث في شخصية كارلو وسر من أسرار نجاحه وتمرّده، وهذا يعود إلى إنه لا ينتمي إلى مدرسة "الفوز" دائمًا، هذا من ناحية، كما أنه مؤمن أيضًا أن المباراة لا تنتهي إلا مع صافرة الحكم، لذلك لا يغضب كثيرًا حين يُهزم أو يخسر بطولة وظهر ذلك جليًا حين تعجّب من رحيل تشافي عن تدريب برشلونة لأنه لم يحقق معهم بطولات رافضًا تلك النظرية من الأساس.
بالتوازي مع عدم الاكتراث بالهزيمة، لكنه لا يؤمن بها إلا مع صافرة الحكم، فلسفة نقلها إلى جميع الأندية التي دربّها، ولذلك أيضًا لم يكن غريبًا أن يكون تألق ريال مدريد بعد الدقيقة التسعين سمة أساسية حسم بها "كارلو" بطولة دوري أبطال أوروبا الاخيرة، دون أن يبدو عليه أي قلق سوى رفع الحاجب ومضغ العلكة.
وأخيرًا، يبحث المدربين عن أحدث الخطط، أحدث التكتيكات، أفضل محللي الأدء، بينما كارلو يتمرد على كل هذا، ويعود بالكرة إلى أصلها، العلاقات الجيدة مع اللاعبين، اللعب حتى الدقيقة الأخيرة، توظيف اللاعبين كما يحبّون ليلهوا في الملعب وينتصروا، وفي حالة الهزيمة ليس عليهم البكاء طويلًا، هكذا فلسفة الإيطالي التي تربّع بلا منافس على عرش تدريب كرة القدم خلال العقود الماضية واعتقد المقبلة، وللتلخيص أكثر، أعود إلى إبراهيموفيتش الذي لخّص القصة بالقول، مورينيو يعرف كيف يتعامل مع لاعب كرة القدم، لكن كارلو يعلم كيف يتعامل مع الشخص أينما كان ووجد لذلك فهو سينجح أينما حل، وهذا ما دلل عليه حين ضم إلى ناديه مبابي وتسائل البعض كيف سيتم قيادة الدبابة الفرنسية، وكان رد كارلو في السوبر الأوروبي الذي حصده وأحرز فيه "مبابي" أول اهدافه.
تعليقات الفيسبوك